...حللت بين رفقة من الاصحاب والاحباب في مجلس جمع من محاسن القول ما تنعش به الألباب وتوطد به مكارم الآداب لتحفظ للخُلة مقامها وللصحبة ودادها فكانت لنا سانحة من سوانح الذكريات التي لا يزال صداها يهمس في الاسماع ..ففاض كل في حديثه وأفصح عن شعوره وحنينه وكان للموطن الحظ الأوفر في الحديث فأخدت كل منا نزعته وانتمائه ومن ذا يلام على محبة الديار......
فستأذنت الأحبة في الحديث فبدأت في القول عنه مسترسلا ولأحواله مخبرا وبلسانه معبرا فقلت والقول في بلدي يطول وعن أوضاعه لايحيط به لسان قؤول فنحوت منحى الوصف دون ميل ولا لف فعددت المناقب وتنزهت عن المثالب فأجليت المحاسن المفاتن وذكرت من روعة المناظر مايستهوي الأفئدة ويبعث في شعورها لواعج الشوق ومكامن الذوق بذكر مواطن الجمال وروائع الخيال حيث تتجلى الطبيعة الصحراوية على أجل منظرها وأنظر طلعتها بكثيبها المتناسق ونخيلها الباسق بظله الظليل مشكلا واحات تمتد وتتعدد تطول وتقصر خلف الكثيب إذا الريح جاء بها أوذهب للتتناسق طلعتها مع زرقة السماء وصفاء الأجواء ...
...وإن سألت عن أحوال أهله فبساطهم رمل وقوتهم ثمر وماء عذب نمير وعن سماحتهم فحدث ولا حرج وسل عن أحوالهم من ذب فوق ثراهم ودرج لايزال أريج القيم الممزوج بالعروبة الأصيلة والأمازيغية العتيقة يعبق من سلوكهم ولا تزال المكارم ملتفة بين طيات العمائم ..فهي باقية ببقائها ...
غير أنهم لم ينالوا حظهم من الإنصاف ولم ترحمهم الأقلام ولا الألسنة بعدما انقضت السنون العجاف وحل محلها واقع يحسدون عليه فعمتهم دون استتاء فأبقت المأساة لصيقة بأيامهم رغم انقضاءها بأعوام وربما بعقود ...ومن جهل شيئا تفنن في وصفه وضل في إنشاءه .وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ماسمع ....
...صحيح أنني لم انشد فيهم الكمال لكن أتبصر ليسر الحال وعودتهم الى واقع أرق واجمل بعدما تقطعت بهم سبل الوصال الى عالم التمدن والتحضر بسعيهم ونشاطهم بعدما استنطقوا الطبيعة على قساوتها واستعذبوا الظروف على مرارتها .
وعن نشئهم وشبابهم فلا يساورك أدنى شك في صدق انتمائهم ونبل هممهم ورجاحة عقولهم وآمالهم القائمة في بناء وطن عانقت نسماته أنفاس الصبا ووطنت ذكرياته خوالج الأفئدة فأورثها الحب والحنين ونقشت على شغافها :
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدا لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** مالحب الاللحبيب الأول