السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. وبعد:
فمنذ أيام قريبة كنا ندعو الله أن يبارك في أعمارنا وينسأ في آجالنا حتى ندرك
رمضان، وأعطينا المواعيد الوثيقة بأن نعمره بطاعة الله قدر الطاقة.. واستجاب الله لنا
بمنه، وحقق أمنيتنا بفضله، فمد في الأعمار حتى أدركنا رمضان...
وجاء رمضان، وكما هي عادة الأيام المباركات، مر مسرعاً، فإن مثل مواسم الخير
وساعات البر كمثل القطار أو الطائرة، من كان مستعداً له منتظرا قدومه ركب فيه فبلغ
به غايته وحقق به أمنيته، ومن كان غافلاً عنه فاته غير مأسوف عليه.
إن أيام رمضان أشبه ما تكون بعقد إنقطع سلكه فأنفرطت خرزاته سريعاً، فمرت منه
عشر الرحمة، ثم عشر المغفرة، ولم يبقـى من العتق من النار إلا أيام ٍ معدودة .
وقفـة محاسبـة
ينبغي للمسلمـ / ـه أن يقف وقفة يحاسب فيها نفسه .
ماذا قدم فيما مضى؟ وماذا يرجوا مما بقي؟ حتى لا يخرج
رمضان كما دخل، وحتى لا نخرج نحن منه كما دخلنا فيه.
وهذه المحاسبة أثناء العمل أصل من أصول النجاة في الآخرة، وسبيل إلى تحقيق
الآمال بتحسين الأعمال، ورد النفس عن الميل أو النقص أو عن سوء القصد، ولتجديد
العزم، ورفع الهمة، وتصحيح النية.
والمحاسبة من أصول السير والوصول إلى الله سبحانه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18)
وقال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت....."رواه الترمذي
وحسنه... ومعنى دان نفسه : أي حاسبها .
قال عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن
أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر،
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) .
قال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من
الشريك لشريكه. (فالنفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك).
وذكر الإمام أحمد أنه: "مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات:
ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه
بعيوبه و يصدقونه من نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل؛
فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب .
وقال الحسن البصري أيضاً : "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب
يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم
أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
فلابد من هذه المحاسبة لتعرف أين أنتـ / ـي ، وماذا استفدت من صيامك وقيامك؟
وهل تحقق فيك مقصود الله تعالى من فرض الصيام، وهل تحقق لك مقصودك من شهر رمضان؟
هل رق قلبك بعد قسوته..؟
هل نديت عينك بعد جمودها..؟
هل قويت إرادتك بالصوم فتركت معاص كنت تقترفها من شرب دخان أو نظرة إلى مسلسلات
وأفلام أو سماع لحناً أو غناءً أو شيء مما حرم الله، أو حديث فيما يغضب الرب أو لا يرضيه
أو غير ذلك مما يعد خللاً في الخلق والدين..؟
هل تحسنت بالصوم أخلاقك، وتهذبت به ألفاظك..؟
هل أحسست بنسائم المغفرة وقد هبت على ذنوبك لتمحوها..؟
هل أحسست بسحائب الرضوان وقد تنزلت على نفسك لتزكيها..؟
هل أحسست ببشائر العتق من النار، قد دلت عليها خفة النفس وإنشراح القلب، وإنطلاق العين،
والإقبال على العبادة..؟
هل اشتم قلبك رائحة الجنة ونسيمها، أم أن قلوبنا ما زالت مزكومة ببرد المعاصي وطبقات الران عليها..؟
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً صائمين لكن ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش
وذكر أناساً قائمين لكن ليس لهم من قيامهم إلا طول السهر.
ذلك أنهم لم يعرفوا من رمضان إلا ترك الطعام والشراب.
رمضان رب فم تمنع عن طعام أو شراب
ظن الصيام عن الطعام هو الحقيقة في الصيام
وإنهال في الأعراض ينهشها ويقطع كالحسام
ياليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
مازلنا نراهم.. أغفل الناس في زمان الجد والإجتهاد، وأولع الناس بمشاهدة الأفلام والمسلسلات
والجلوس إلى القنوات، أكثر الناس تسكعاً في الأسواق في مواسم الخيرات.
زيدوا أنتم في العمل
أيها الأحبة : إن رمضان قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم من العمل، فكأنكم به قد انصرف.
فإنه قد بدأ إدباره، وآذن بوداع، وإن ما بقي منه سيمر كطرفة عين أو ومضة برق،
أو كلمح البصر أو هو أقرب.
إن هذه الأيام هي أيام التنافس الحق.. أيام تبتلى فيها الهمم، وتتميز فيها العزائم.. وإني ـ والله ـ لكم لمن الناصحين.
إنها أيام وليالٍ نطق بقدرها الكتاب الكريم، وبين مكانها النبي الأمين، وتحدث عن فضلها
الوعاظ والعلماء، وأطنب في مدحها الدعاة والخطباء.. فماذا تنتظر حتى تنضم إلى سلك سبيل المؤمنين،
وتسطر إسمك في قافلة الراكعين الساجدين؟!!
إن أيام شهركم تتقلص، ولياليه تتقضي، وساعاته الطيبة تسارع في الرحيل شاهدة بما عملتم،
وحافظة لما أودعتم، فهي خزائن مستودعة تدعون لرؤيتها يوم القيامة (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً)،
حين تسمعون القول الحق من الإله الحق : "ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم وأوفيكم إياها؛
فمن وجد خير فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
إنها فرصة عظيمة تغترف من الحسنات تملأ بها كتاباً طالما سوَّدت صفحاته المعاصي والسيئات
فلعلك تسعد به حين يقال: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) .
إن هذه الأيام والليالي التي نحن مقبلون عليها هي أعظم ليالي السنة، بل هي كالتاج على رأس الزمن،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظمها أكبر تعظيم، ويستعد لها أجمل الإستعداد، ويجتهد فيها
ما لا يجتهد في سواها.. ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها قالت:
"كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره".
وفي الصحيحين عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر
شد المئزر وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وشد المئزر كناية عن هجر النساء وعن الإجتهاد في العمل والتعبد، وربما كان يواصل الصيام بل كان يفعل؛
يفرغ وقته للطاعة، وكان يعتكف في مسجده في العشر يخلو بربه ويزيد من عمله ويتحرى ليلة القدر
خير ليالي الدنيا على الإطلاق فصلى الله عليه وآله وسلم .
فاجعل منه لك أسوة وقم فشد مئزرك، وأيقظ أهلك، وأحيي ليلك عسى أن تنال بركة العشر،
وتفوز بليلة القدر، ويكتبك الله من العتقاء من النار