وجدت هذا الموضوع ضمن أحد المنتديات فأحببت أن انقله للفائدة هذه مقتطفات من كتب مختلفة بندا مع ابن خلدون
المجلد السابع
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الأول
صفحة 3 -150
زَناتَة
الخبر عن زناتة من قبائل البربر يوم كان بين أجيالهم من
العز والظهور وما تعاقب فيهم من الدول القديمة والحديثة
هذا الجيل في المغرب جيل قديم العهد، معروف العين والأثر؛ وهم لهذا العهد آخذون من شعائر العرب في سكنى الخيام واتخاذ الإبل وركوب الخيل، والتغلّب في الأرض وإيلاف الرحلتين، وتخطّف الناس من العمران، والإباية عن الانقياد للنصَفة. وشعارهم بين البربر اللغة التي يتراطنون بها، وهي مشتهرة بنوعها عن سائر رطانة البربر. ومواطنهم في سائر مواطن البربر بأفريقية والمغرب. فمنهم ببلاد النخيل ما بين غدامس والسوس الأقصى، حتى أنّ عامة تلك القرى الجريدية بالصحراء منهم كما نذكره. ومنهم قوم بالتلول بجبار طرابلس وضواحي إفريقية، وبجبل أوراس بقايا منهم سكنوا مع العرب الهلاليين لهذا العهد، وأذعنوا لحكمهم، والأكثر منهم بالمغرب الأوسط، حتى أنه ينسب إليهم ويعرف بهم فيقال: وطن زناتة. ومنهم بالمغرب الأقصى أمم أخرى، وهم لهذا العهد أهل دول وملك بالمغربين. وكان لهم فيه دول أخرى في القديم. ولم يزل الملك يتداول في شعوبهم حسبما نذكره بعد لكل شعب منهم إن شاء الله تعالى.
الخبر عن نسبة زناتة وذكر الخلاف الواقع فيه وتعديد شعوبهم:
أمّا نسبهم بين البربر فلا خلاف بين نسّابتهم أنهم من ولد شانا وإليه نسبهم، وأمّا شانا فقال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة، قال بعضهم: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورماك بن ضري بن رحيك بن مادغيس بن بربر. وقال أيضاً في كتاب الجمهرة: ذكر لي يوسف الورّاق عن أيوب بن أبي يزيد، يعني حين وفد على قرطبة عن أبيه الثائر بأفريقية أيام الناصر قال: هو جانا بن يحيى بن صولات بن ورساك بن ضري بن مقبو بن قروال بن يملا بن مادغيس بن رحيك بن همرحق ابن كراد بن مازيغ بن هرك بن برا بن بربر بن كنعان بن حام. هذا ما ذكره ابن حزم. وبظهر منه أنّ مادغيس ليس نسبة إلى البربر وقد قدّمنا ما في ذلك من الخلاف، وهذا أصح ما ينقل في هذا الآن ابن حزم، موثوق ولا يعدل به غيره.
ونقل عن ابن أبي زيد وهو كبير زناتة، ويكون البربر على هذا من نسل برنس فقط، والبتر الذين هم بنو مادغيس الأبتر ليسوا من البربر. ومنهم زناتة وغيرهم كما قدّمنا لكنهم إخوة البربر لرجوعهم كلهم إلى كنعان بن حام كما يظهر من هذا النسب.
ونقل عن أبي محمد بن قتيبة في نسب زناتة هؤلاء أنهم من ولد جالوت في رواية أن زناتة هو جانا بن يحيى بن ضريس بن جالوت، وجالوت هوونور بن جرييل بن جديلان بن جاد بن رديلان بن حصى بن باد بن زحيك بن مادغيس الأبتر بن قيس بن عيلان.
وفي رواية أخرى عنه أنّ جالوت هو ابن جالود بردنال بن قحطان بن فارس، وفارس مشهور.
وفي رواية أخرى عنه أنه ابن هربال بن بالود بن ديال بن برنس بن سفك، وسفك أبو البربر كلهم، ونسّابة الجيل نفسه من زناتة يزعمون أنهم من حِمْيَر، ثم من التبابعة منهم. وبعضهم يقول إنهم من العمالقة، ويزعمون أنّ جالوت جدّهم من العمالقة، والحقّ فيهم ما ذكره أبو محمد بن حزم أولاً، وما بعد ذلك فليس شيء منه بصحيح. فأمّا الرواية الأولى عن أبي محمد بن قتيبة فمختلطة وفيها أنساب متداخلة. وأما نسب مادغيس إلى قيس عيلان فقد تقدّم في أوّل كتاب البربر عند ذكر أنسابهم، وأن أبناء قيس معروفون عند النسّابة. وأمّا نسب جالوت إلى قيس فأمر بعيد عن القياس، ويشهد لذلك أنّ معد بن عدنان الخامس من آباء قيس إنما كان معاصراً لبختنصر كما ذكرناه أوّل الكتاب. وأنّه لما سلّط على العرب أوحى الله إلى أرَمْيَاء نبيّ بني إسرائيل أن يخلّص مَعَدّاً ويسير به إلى أرضه، وبختنصّر كان بعد داود بما يناهز أربعمائة وخمسين من السنين، فإنه خرّب بيت المقدس بعد بناء داود وسليمان له بمثل هذه المدّة.
فمعدّ متأخّر عن داود بمثلها سواء؛ فقيس الخامس من أبنائه متأخّر عن داود بأكثر من ذلك، فجالوت على ما ذكر أنه من أبناء قيس متأخّر عن داود بأضعاف ذلك الزمن. وكيف يكون ذلك مع أنّ داود هو الذي قتل جالوت بنصّ القرآن؟.
وأمّا إدخاله نسب جالوت في نسب البربر، وأنه من ولد مادغيس أو سفك فخطأ،
وكذلك من نسبه إلى العمالقة. والحق أنّ جالوت من بني فلسطين بن كسلوحيم بن مصرايم بن حام أحد شعوب حام بن نوح، وهم إخوة القبط والبربر والحبشة والنوبة كما ذكرناه في نسب أبناء حام. وكان بين بني فلسطين هؤلاء وبين بني إسرائيل حروب كثيرة، وكان بالشام كثير من البربر إخوانهم، ومن سائر أولاد كنعان يضاهونهم فيها، ودثرت أمة فلسطين وكنعان وشعوبها لهذا العهد، ولم يبق إلاً البربر، واختص إسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم فاعتقد سامع إسم البربر مع ذكر جالوت أنه منهم وليس كذلك.
وأمّا ما رأى نسّابة زناتة أنهم من حِمْيَر فقد أنكره الحافظان أبو عمر بن عبد البرّ وأبو محمد بن حزم وقالا: ما كان لحِمْيَر طريق إلى بلاد البربر إلاً في أكاذيب مؤرخي اليمن، وإنما حمل نسّابة زناتة على الانتساب في حِمْيَر الترفّع عن النسب البربري لما يرونهم في هذا العهد خَوَلاً وعبيداً للجباية وعوامل الخراج. وهذا وَهْمُ فقد كان في شعوب البربر من هم مكافئون لزناتة في العصبية أو أشدّ منهم مثل هّوارة ومكناسة، وكان فيهم من غلب العرب على ملكهم مثل كتامة وصنهاجة ومن تلقّف الملك من يد صنهاجة مثل المصامدة، كل هؤلاء كانوا أشدّ قّوة وأكثر جمعاً من زناتة. فلمّا فنيت أجيالهم أصبحوا مغلّبين فنالهم ضرٌ المغرم، وصار إسم البربر مختصًّا لهذا العهد بأهل المغرم، فأنف زناتة منه فراراً من الهضيمة.
وأعجبوا بالدخول في النسب العربي لصراحته وما فيه من المزيّة بتعدد الأنبياء ولا سيما نسب مُضَر وأنهم من وُلْد إسماعيل بن إبراهيم بن نوح بن شيث بن آدم، خمسة من الأنبياء ليس للبربر إذا نسبوا إلى حام مثلها مع خروجهم عن نسب إبراهيم الذي هو الأب الثالث للخليقة إذ الأكثر من أجيال العالم لهذا العهد من نسله. ولم يخرج عنه لهذا العهد إلاّ الأقل مع ما في العربية أيضاً من عزّ التوحّش، والسلامة من مذمومات الخلق بانفرداهم في البيداء. فأعجب زناتة نسبهم وزيّنه فهم نسّابتهم، والحق بمعزل عنه، وكونهم من البربر بعموم النسب لا ينافي شعارهم من الغلب والعزة، فقد كان الكثير من شعوب البربر مثل ذلك وأعظم منه. وأيضاً فقد تميزت الخليقة وتباينوا بغير واحد من الأوصاف، والكلّ بنو آدم ونوح من بعده. وكذلك تميّزت العرب وتباينت شعوبها والكلّ لسام ولإسمعيل بعده.
وأمّا تعدّد الأنبياء في النسب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يضرّك الاشتراك
مع الجيل في النسب العام إذا وقعت المباينة لهم في الأحوال التي ترفع عنهم، مع أنّ المذلّة للبربر إنما هي حادثة بالقلّة ودثور أجيالهم بالملك الذي حصل لهم، ونفقوا في سبله وترفه كما تقدّم لك في الكتاب الأوّل من تأليفنا. وإلاّ فقد كان لهم من الكثرة والعزّ والملك والدولة ما هو معروف.
وأمّا أنّ جيل زناتة من العمالقة الذين كانوا بالشام فقول مرجوح وبعيد من الصواب لأن العمالقة الذين كانوا بالشام صنفان: عمالقة من ولد عيصو بن إسحق، ولم تكن لهم كثرة ولا ملك، ولا نقل أنّ أحداً منهم انتقل إلى المغرب، بل كانوا لقلّتهم ودثور أجيالهم أخفى من الخفاء. والعمالقة الأخرى كانوا من أهل الملك والدولة بالشام قبل بني إسرائيل، وكان أريحاء دار ملكهم. وغلب عليهم بنو إسرائيل وابتزّوهم ملكهم بالشام والحجاز وأصبحوا حصائد سيوفهم؛ فكيف يكون هذا الجيل من أولئك العمالقة الذين دثرت أجيالهم؟ وهذا لو نقل لوقع به الاسترابة فكيف وهو لم ينقل؟ هذا بعيد في العادة. والله أعلم بخلقه.
وأما شعوب زناتة وبطونهم فكثير ولنذكر المشاهير منها فنقول: اتفق نسّاب زناتة على أنّ بطونهم كلها ترجع إلى ثلاثة من ولد جانا وهم: ورسيك وفرني والديرت، هكذا في كتب أنساب زناتة. وذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة له من ولد ورسيك عند نيّابتهم مَسَّارَت ورغاي وواشروجن، ومن واشروجن واريغن بن واشروجن. وقال أبو محمد بن حزم في ولد ورسيك أنهم مسارت وناجرت وواسين.
وأمّا فرني بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة يزمرتن ومرنجيصة ووركلة ونمالة وسبرترة، ولم يذكر أبو محمد بن حزم سبرترة وذكر الأربعة الباقية. وأمّا الديرت بن جانا فمن ولده عند نسّابة زناتة جداو بن الديرت، ولم يذكره ابن حزم. وإنما قال عند ذكر الديرت: ومن شعوبه بنو ورسيك بن الديرت وهم بطنان دمّر بن ورسيك وزاكيا بن ورسيك. قال: ودمّر لقب واسمه الغانا. قال: فمن ولد زاكيا بنو مغراو وبنو يفرن وبنو واسين. قال: وأمّهم واسين مملوكة لأمّ مغراو وهم ثلاثتهم بنو يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ويزيد نسّابة زناتة في هؤلاء يرنيات بن يصلتن أخاً لمغراو، ويفرن وواسين، ولم يذكره ابن حزم.
قال: ومن ولد دمّر ورنيد بن وانتن بن وارديرن بن دمّر، وذكر لبني دمّر أفخاذاً سبعة وهم: غرازول ولفورة وزناتين، وهؤلاء الثلاثة مختصّون بنسب دمّر، وبرزال ويصدرين وصغمان ويَطُوَّفت، هكذا ذكر أبو محمد بن حزم، وزعم أنه من إملاء أبي بكر بن يكنى البرزالي الأباضي، وقال فيه: كان ناسكاً عالماً بأنسابهم. وذكر أنّ بني واسين وبني برزال كانوا أباضية، وأنّ بني يفرن ومغراوة كانوا سنية. وعند نسّابة البربر مثل سابق بن سليمان المطماطي وهانىء بن يصدور والكومي وكهلان بن أبي لوا، وهو مسطّر في كتبهم أنّ بني ورسيك بن الديرت بن جانا ثلاثة بطون وهم: بنو زاكيا وبنو دمّر وآنشة بنو آنش، وكلّهم بنو وارديرن ورسيك. فمن زاكيا بن وارديرن أربعة بطون: مغراوة وبنو يفرن وبنو يرنيان وبنو واسين، كلّهم بني يصلتن بن مسرا بن زاكيا. ومن آنش بن وارديرن أربعة بطون: بنو برنال وبنو صقمات وبنو يصدورين وبنو يطوفت كلهم بنو آنش بن وارديرن. ومن دمّر بن وارديرن ثلاثة بطون: بنو تقورت وبنو غررول وبنو ورتاتين كلّهم بنو وتيد بن دمّر، هذا الذي ذكره نسّابة البربر، وهو خلاف ما ذكره ابن حزم. ويذكر نسابة زناتة آخرين من شعوبهم ولا ينسبونهم مثل يجفش، وهم أهل جبل قازاز قريب مكناسة وسنجاسن وورسيغان وتحليلة وتيسات وواغمرت وتيفرض ووجديجن وبنو بلومو وبني وماني وبني توجين. على أنّ بني توجين ينتسبون في بني واسين نسباً ظاهراً صحيحاً بلا شك على ما يذكر في أخبارهم. وبعضهم يقول في وجديجن وواغمرت بنو ورتنيص أنهم من البرانس من بطون البربر على ما قدمناه. وذكر ابن عبد الحكم في كتابه فتح مصر خالد بن حميد الزناتي، وقال فيه: هو من شورة إحدى بطون زنانة، ولم نره لغيره. هذا ملخص الكلام في شعوب زناتة وأنسابهم بما لا يوجد في كتاب. والله الهادي إلى مسالك التحقيق لا رب غيره.
فصل في تسمية زناتة ومبني هذه الكلمة:
أعلم أن كثيراً من الناس يبحثون عن مبنى هذه الكلمة واشتقاقها على ما ليس معروفاً للعرب ولا لأهل الجيل أنفسهم فيقال: هو إسم وضعته العرب على هذا الجيل، ويقال: بل الجيل وضعوه لأنفسهم أو اصطلحوا عليه. ويقال: هو زانا بن جانا فيزيدون في النسب شيئاً لم تذكره النسّابة. وقد يقال إنه مشتق ولا يعلم في لسان العرب أصل مستعمل من الأسماء يشتمل على حروفه المادية. وربّمَا يحاول بعض الجهلة اشتقاقه من لفظ الزنا، ويعضده بحكاية خسيسة يدفعها الحق، وهذه الأقوال كلّها ذهاب إلى أنّ العرب وضعت لكل شيء إسماً، وأنّ استعمالها إنّما هو لأوضاعها التي من لغتها ارتجالاً واشتقاقاً. وهذا إنّما هو في الأكثر، وإلاّ فالعرب قد استعملت كثيراً من غير لغتها في مسمّاه إمّا لكونه عَلَماً فلا يغير مثل: إبراهيم ويوسف من اللغة العبرانية، وإمّا استعانة وتخفيفاً لتداوله بين الألسنة كاللجام والديباج والزنجبيل والنيروز والياسمين والأجرّ، فتصير باستعمال العرب كأنها من أوضاعهم. ويسمّونها المعرّبة، وقد يغّيرونها بعض التغيير في الحركات أو في الحروف، وهو شائع لهم لأنه بمنزلة وضع جديد.
وقد يكون الحرف من الكلمة ليس من حروف لغتهم فيبدّلونه بما يقرب منه في المخرج، فإن مخارج الحروف كثيرة منضبطة، وإنّما نطقت العرب منها بالثمانية والعشرين حروف أبجد. وبين كل مخرجين منها حروف أكثر من واحد فمنها ما نطقت به الأمم، ومنها ما لم تنطق به، ومنها ما نطق به بعض العرب كما هو مذكور في كتب أهل اللسان. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أن أصل هذه اللفظة التي هي زناتة من صيغة جانا التي هي اسم أبي الجيل كله، وهو جانا بن يحيى المذكور في نسبهم. وهم إذا أرادوا الجنس في التعميم الحقوا بالاسم المفرد تاء فقالوا جانات. وإذا أرادوا التعميم زادوا مع التاء نونا فصار جاناتن. ونطقهم بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب، بل ينطقون بها بين الجيم والشين وأميل إلى السين. ويقرب للسمع منها بعض الصفير فأبدلوها زاياً
محضة لاتصال مخرج الزاي بالسين، فصارت زانات لفظاً مفرداً دالاً على الجنس. ثم ألحقوا به هاء النسبة وحذفوا الألف التي بعد الزاي تخفيفاً لكثرة دورانه على الألسنة. والله أعلم.
فصل في أولية هذا الجيل وطبقاته:
أمّا أولية هذا الجيل بإفريقية والمغرب فهي مساوية لأولية البربر منذ أحقاب متطاولة لا يعلم مبدأها إلاّ الله تعالى، ولهم شعوب أكثر من أن تحصى مثل مغراوة وبني يفرن وجراوة وبني يرنيان ووجد يجن وغمرة وبني ويجفش وواسين وبني تيغرست وبني مرين وتوجين وبني عبد الواد وبني راشد وبني برزال وبني ورنيد وبني زنداك وغيرهم. وفي كل واحد من هذه الشعوب بطون متعدّدة. وكانت مواطن هذا الجيل من لدن جهات طرابلس إلى جبل أوراس والزاب إلى قبلة تِلْمِسَانِ، ثم إلى وادي مَلَويّة. وكان الكثرة والرياسة فيهم قبل الإسلام لجراوة ثم لمغراوة وبني يفرن.
ولما ملك الإفرنجة بلاد البربر ودانوا لهم بدين النصرانية ونزلوا الأمصار بالسواحل، وكان زناتة هؤلاء وسائر البربر في ضواحيهم؛ صاروا يؤدون لهم طاعة معروفة وخراجا معروفا مؤقتا، ويعسكرون معهم في حروبهم ويمتنعون عليهم فيما سوى ذلك حتى جاء الله بالإسلام، وزحف المسلمون إلى أفريقية، وملك الإفرنجة بها يومئذ جرجير، فظاهره زناتة والبربر على شأنه مع المسلمين وانفضّوا جميعاً. وقتل جرير وأصبحت أموالهم مغانم ونساؤهم سبايا، وافتتحت سبيطلة. ثم عاود المسلمون غزو أفريقية: وافتتحوا جلولاء وغيرها من الأمصار، ورجع الإفرنجة الذين كانوا يملكونهم على أعقابهم إلى مواطنهم وراء البحر. وظنّ البربر بأنفسهم مقاومة العرب؛ فاجتمعوا وتمسّكوا بحصون الجبال. واجتمعت زناتة إلى الكاهنة وقومها جراوة بجبل أوراس حسبما نذكر، فأثخن العرب فيهم واتبعوهم في الضواحي والجبال والقفار حتى دخلوا في دين الإسلام طوعاً وكرهاً، وانقادوا إلى إيالة مِصْرَ، وتولّوا من أمرهم ما كان الإفرنجة يتولونه. حتى إذا انحلت بالمغرب عرى الملك العربي وأخرجهم من أفريقية البربر من كتامة وغيرهم، قدح هذا الجيل الزناتي زناد الملك فأورى لهم، وتداول فيهم الملك جيلاً بعد جيل في طبقتين حسبما نقصّه عليك إن شاء الله تعالى.
الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح:
كانت هذه الأمّة من البربر بأفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم. ولما أطلّ المسلمون في عساكرهم على أفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون، وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بأفريقية موضع للقاء المسلمين بجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها وموطنها ومع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة.
ولما اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر أفريقية، ثم ولاّها معاوية بعد عام عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس، وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوْربة. وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من افريقية. وبعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر، وقتلوا كسيرة واسترجعوا القيروان وقرطاجنة وإفريقية وفر بقية الإفرنجة والروم إلى صقلية والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زنانة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطوناً، وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا. وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت تابنة بن نيقان بن باورا بن مصكسري بن أفصد بن وصيلا بن جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدت عليهم وعلى قومها بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم.
قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة وعاشت مائة
وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر، وقتل كسيلة زحفوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوي إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها. وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية، وانتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفض جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف.
وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان قبل الواقعة، أشارت عليهما بذلك أمهما دهيا لأثارة علم كان لديها في ذلك من شيطانها فتقبلهما حسان. وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما. وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق ففهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر، وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. وإليهم نزع ابن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل إليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك. والفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في يطوفت ومن إليهم من قبائل غمارة، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن مبتدأ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك إليهم بالمغرب وإفريقية:
لما فرغ شأن الردة من إفريقية والمغرب، وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب، واستقل بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسي الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال والحبشة في الجنوب، والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجية في الأندلس. وضرب الإسلام بجرإنه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدعين
استحقاق الأمر بالوصية. وتكرر خروجهم عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغرت الصدور واستحكمت الأوتار، وتعددت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من علي كرم الله وجهه إلى من بعده من بني هاشم: فقوم ساقوها إلى آل العباس، وقوم إلى آل الحسن، وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العباس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، فجدد بها دعوة الأمويين، واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية.
ثم نفس آل أبي طالب على آل العباس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعو بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العباس في وقائع عديدة. وفر إدريس بن عبد الله أخو المهدي ناجيا من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوروبة ومغيلة وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط، وبثوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العباس، واستمرت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديين.
ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثون دعاتهم بالقاصية، إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهدي ولد إسمعيل الإمام ابن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة. ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملة فيهم، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أن الأرض لته يورثها من يشاء من عباده.
فلم لنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوضت مباني الدين بتقويض معالم الملك،
وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كله. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسترون منها حسواً في ارتغاء إلى أن ظفروا من ذلك بحظ مثل كتامة بإفريقية،
ومكناسة بالمغرب. ونافسهم في ذلك زناتة، وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدهم قوة فشمروا له حتى ضربوا معهم بسهم، فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرد الحلك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك، ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفل من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.
بنو يفرن
الطبقة الأولى من زناتة ونبد أ منها بالخبر
عن بني يفرن وأنسابهم وشعوبهم
وما كان لهم من الدول بإفريقية والمغرب
وبنويفرن هؤلاء من شعوب زناتة، وأوسع بطونهم، وهم عند نسابة زناتة بنو
يفرن بن يصلتين بن مسرا بن زاكيا بن ورسيك بن الديرت بن جانا، وإخوته مغراوة وبنو يرنيان وبنو واسين، والكل بنو يصلتين. وبفرن في لغة البربر هو القار. وبعض نسابتهم يقولون إن يفرن هو ابن ورتنيذ بن جانا، وإخوته مغراوة وغمرت ووجديجن. وبعضهم يقول يفرن بن مرة بن ورسيك بن جانا. وبعضهم يقول هو ابن جانا لصلبه والصحيح ما نقلناه عن أبي محمد بن حزم.
وأما شعوبهم فكثير، ومن أشهرهم بنو واركوا ومرنجيصة. وكان بنو يفرن هؤلاء لعهد الفتح أكبر قبائل زناتة وأشدها شوكة، وكان منهم بإفريقية وجبل أوراس والمغرب الأوسط بطون وشعوب، فلما كان الفتح غشي إفريقية ومن بها من البربر جنود الله المسلمون من العرب فتطامنوا لبأسهم حتى ضرب الدين بجرانه، وحسن
إسلامهم. ولما فشا دين الخارجية في العرب، وغلبهم الخلفاء بالمشرق واستلحموهم نزعوا إلى القاصية، وصاروا يبثون بها دينهم في البربر فتلقفه رؤساؤهم على اختلاف مذاهبه باختلاف رؤوس الخارجية في أحكامهم من أباضية وصفرية وغيرهما كما ذكرناه في بابه، ففشا في البربر وضرب فيه يفرن هؤلاء بسهم وانتحلوه، وقاتلوا عليه. وكان أول من جمع لذلك منهم أبو قرة من أهل المغرب الأوسط. ثم من بعده أبو يزيد صاحب الحمار وقومه بنو واركوا ومرنجيصة. ثم كان لهم بالمغرب الأقصى من بعد الانسلاخ من الخارجية دولتان على يد يعلى بن محمد صالح وبنيه حسبما نذكر ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى.
الخبر عن أبي قزة وما كان لقومه من الملك بتلمسان ومبدأ ذلك ومصادره:
كان من بني يفرن بالمغرب الأوسط بطون كثيرة بنواحي تلمسان إلى جبل بني
راشد المعروف بهم لهذا العهد، وهم الذين اختطوا تلمسان كما نذكره في أخبارها. وكان رئيسهم لعهد انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس أبو قرة ولا نعرف من نسبه أكثر من أنه منهم. ولما انتقض البرابرة بالمغرب الأقصى وقام ميسرة وقومه بدعوة الخارجية وقتله البرابرة قدموا على أنفسهم مكانه خالد بن حميد من زناتة، فكان من حروبه مع كلثوم بن عياض وقتله إياه ما هو معروف. ورأس على زناتة من بعده أبو قرة هذا.
ولما استأثلت دولة بني أمية كثرت الخارجية في البربر، وملك ورفجومة القيروان، وهوارة، وزناتة طرابلس ومكناسة سجلماسة، وابن رستم تاهرت. وقدم ابن الأشعث إفريقية من قبل أبي جعفر المنصور، وخافه البربر فحسم العلل وسكن الحروب. ثم انتقض بنو يفرن تلمسان ودعوا إلى الخارجية وبايعوا أبا قرة كبيرهم بالخلافة سنة ثمان وأربعين ومائة، وسرح إليهم ابن الأشعث الأغلب بن سوادة التميمي فانتهى إلى الزاب. وفر أبو قرة إلى المغرب الأقصى، ثم راجع موطنه بعد رجوع الأغلب.
ولما انتقض البرابرة على عمر بن حفص بن أبي صفرة الملقب "هزارمرد" عام خمسين ومائة وحاصروه بطبنة كان فيمن حاصره أبو قرة اليفرني في أربعين ألفا صفرية من قومه وغيرهم حتى اشتد عليه الحصار، وداخل أبا قرة في الإفراج عنه على يد ابنه على أن يعطيه أربعين ألفا، ولابنه أربعة آلاف، فارتحل بقومه وانفض البرابرة عن طبنة. ثم حاصروه بعد ذلك بالقيروان واجتمعوا عليه، وأبو قرة معهم بثلثمائة وخمسين ألفا: الخيالة منها خمسة وثمانون ألفا. وهلك عمر بن حفص في ذلك الحصار.
وقدم يزيد بن حاتم واليا على إفريقية ففض جموعهم وفرق كلمتهم، ولحق أبو قرة
وبنو يفرن أصحابه بمواطنهم من تلمسان بعد أن قتل صاحبه أبو حاتم الكندي رأس الخوارج، واستلحم بني يفرن وتوغل يزيد بن حاتم في المغرب ونواحيه وأثخن في أهله إلى أن استكانوا واستقاموا. ولم يكن لبني يفرن من بعدها انتقاض حتى كان شأن أبي يزيد بإفريقية في بني واركوا ومرنجيصة منهم حسبما نذكره إن شاء الله تعالى الكريم. وبعض المؤرخين ينسب أبا قرة هذا إلى مغيلة، ولم أظفر بصحيح في ذلك، والطرائق متساوية في الجانبين فإن نواحي تلمسان هـان كانت موطنا لبني يفرن فهي أيضا موطن لمغيلة، والقبيلتان متجاورتان. لكن بني يفرن كانوا أشد قوة وأكثر جمعا ومغيلة أيضا كانوا أشهر بالخارجية من بني يفرن لأنهم كانوا صفرية. وكثير من الناس يقولون إن بني يفرن كانوا على مذهب أهل السنة كما ذكره ابن حزم وغيره والله أعلم.